التطوع في دواخلنا وطن.. من يوميات متطوعي لجان الرعاية الصحية

كتب د.نهاد الأخرس

( ظهيرة الجمعه وصلنا نداء من الاطفائية وصوت النجاح عن وجود حالة ولادة في شارع 10 ألطور تحركت سيارة الاسعاف برفقة جيب من الاطفائية لتسهيل الطريق ، وصلنا الى حد معين ومن ثم ترجلنا لتنغرس اقدامنا بثبات في الثلوج التي وصل ارتفاعها لنحو متر ، مشينا لمسافة 300 متر بالاتجاهين ، وأخيرا وصلنا حيث العنوان المطلوب وطرقنا باب المنزل مرات ومرات ولم نجد احد هناك ، وفي مساء نفس اليوم اتصل احدهم على صوت النجاح ليقول ان طاقم الاسعاف لم يصل لنفس الحالة المذكورة – قمنا بالرد مباشرة عبر الاذاعة وبعد ذلك اتصل زوج السيدة على الاطفائية وكنت متواجد هناك فطلب مني مدير الفرقة المناوبة الرد على ألمتصل وشرحت له طريقة وصولنا وعدم وجود احد بالمنزل ، فقال لي : اني رأيتكم (فإجابتي له كانت: رأيتنا في هذه الظروف ولم تنادي علينا وأنت من وجهت نداء استغاثة …وقطعنا كل هذه الطريق لتلبية النداء ) )
اعتدنا كلما استدعانا الواجب ان نلبي النداء …يافعين كنا ونحن نتنقل ما بين الاريون والياسمينة ما بين دوي الرصاص والمسيل للدموع وفي ازقة المخيمات هنا هناك …..تعلمنا الكثير واكتسبنا التجارب والخبرات وبات التطوع في دواخلنا وطن ….وكبرنا وكبر حلمنا … وما بين الامس واليوم حكايا وحكايات تعنونت انسانيتنا فيها وجع وفرح …..
ايصال الادوية والحليب والخبز للكثير من المنازل في المناطق المحاصرة وعلاج العديد من الحالات ميدانيا وتحويل بعضها للمشافي بما فيها اصابات ناتجة عن التزحلق على الجليد في نابلس الجديدة . المخفية . الطور . العامرية ، هي نفس الحكاية ، وشتان ما بين ذا وذاك سحر الطبيعة بردائها الابيض وان يحاصرنا وينال منا ….ليس كفعل المحتل وحصاره ورصاصه وفاشيته ….وسعيه الدائم لقتل الفرح فينا ….ادهشنا حقد المحتل عندما امطر فرحة الاطفال وذويهم بالمسيلات للدموع على حاجز السمراء ، فقط لأنهم ارادوا ان يحتفلوا بالزائر الجديد …كل له طريقته ، اما نحن فانشغلنا بعلاج المصابين جراء الاختناق بالغاز والجروح بسبب اعتداء جنود الاحتلال …اتنا عشر مصابا واختطاف الفرح كانت النتيجة ، هكذا اعتقد جنود الاحتلال ….لكن خاب ظنهم فللفرح في نفوسنا متسع بحجم الارض والحياة …
في كل ساعة حكاية ، تتنوع هي الحكايات ويجمعها الالم بأصنافه ….مع رنين الهاتف في مركز تواجدنا في اطفائية بلدية نابلس الفرع 3 شارع 24 ، وتلقي النداء والعنوان نلملم ما تيسر على عجل مسرعين لتشتد فينا الحرارة ونبدأ المشوار الصعب .. تمكنا من الوصول الى المنطقة الجنوبية من نابلس الجديدة ودخلنا ما يزيد عن 40 منزل لتفقد اوضاعهم واحتياجاتهم ومنها الادوية وكنا اول الواصلين الى تلك المنطقة الصعبة جدا وهذا صباح يوم السبت وكان برفقتنا مجموعه من شباب اطفائية مدينة نابلس… قمنا بشراء الدواء وعدنا بالمساء لإيصاله لهم ، ليفاجئنا احدهم وبعد سير لمسافات طويلة بالليل خارج من منزله متوجها الى منزله الاخر في وسط المدينة …ضحكنا بكاء وكل منا التفت على الاخر …غريب هو الموقف ؟

ولكن ، لنابلس الجديدة بحلتها الجديدة حكاية مختلفة حيث جمال المشهد والصمت الرهيب وتلك المعالم الذي عهدنا هناك باتت في غياب …. ان تتمكن من الصعود الى اعلى منطقة في نابلس الجديدة من الجهة الشمالية والوصول الى الهدف حيث منزل ناصيف وبرودة الاجواء لا توصف ، وعلى الرغم من ذلك تشعر بالدفء ويدفعك واجبك للمضي قدما دون كلل . تحدث نفسك والزملاء لا بد من الوصول.،.وتشحذ الهمم وتمتشق على كتفك اسطوانة اوكسجبن ظبي .. وتعد الامتار لتطرق باب المستغيث فرحا بلحظة الوصول وتلامس بسمات من يفتح لك الباب يعانقه الفرح والدموع …حيث مسنة مريضة بحاجة الى الاكسجين على مدار 24 ساعة ، قمنا بإنزال الجرة كبيرة الحجم من رأس الجبل الى سيارة الاسعاف على الاكتاف لتعبئتها من مستشفى رفيديا وإعادتها للمنزل بنفس الطريقة ( 400-500 متر ذهابا وإيابا) مع انزلاق لشارع قوي ( طلعه حادة جدا ) كانت خفقات قلوبنا اكثر عنادا وكنا اكثر سعادة واشد فرحا فالتقطنا بعض الصور بعد انتهاء المهمة لتكون ذاكرتنا بعد حين لما سنسميه بوما (سنة التلجه الكبيره )..
ما يثلج الصدور بعيدا عن قسوة الثلوج المترامية على الارض …هو التعاون الذي تجسد في الميدان …ان ترى اجهزة الامن يسهلون لنا الكثير من المهام في ظل تواجد كثيف للمواطنين وإغلاقهم بعض الطرقات … بل ويوفرون الحماية من بعض المارقين والسذج …تتفاوت النبضات دفا ومحبه وتشتد العزائم …وان تجد المواطنين متفهمين لمهماتنا يرشدوك الطريق الاسلم من نوافذ بيوتهم او يلوحون لك بالأيدي ويبتسمون … بذلك يمنحوننا طاقة ولا اجمل لنواصل المسير رغم كل الظروف .

ان تستعد لالتقاط الانفاس بعد عناء ، ويأتيك مناد ينادي وتمضي وأنفاسك المنهكة في سبيل تلبية النداء لتجد مالا تتوقع …يفترض في هكذا اجواء وظروف ان تخرج عن طورك …ولكن حجم المأساة تجعل كأن شيئا لم يكن ….. يوم الجمعه الساعة السادسة مساءا طلب احدهم المساعدة لزوجة حيث اعتقد انها تعاني من ذبحة صدرية ، ذهبنا الى منطقة العامرية حيث يسكن واستعنا بجرافة مجلس قروي بيت وزن مشكورين لتسهيل الطريق وكذلك بجيب دفع رباعي للدفاع المدني للوصول الى المنزل لان الطريق صعبة جدا وارتفاع الثلوج تعلو المتر ، وبعد محاولات لشق الطريق كادت الجرافة ان تنزلق بسائقها عن الجبل ولم تتمكن من فتح الطريق ، ولغزارة الثلوج لم نتمكن من الاقتراب كثيرا لان الجيب توقف ، عندها عاودت الاتصال بزوج المريضة وقلت له فشلنا وبقي امامنا السير على الاقدام لإخراجها ونحن قادمون ، وبعد كل هذا العناء قال لي: يعطيكم العافية كنت اريد ان اجري لها بعض الفحوصات للاطمئنان اي انها بحالة جيدة .

تعددت الحكايات – نسرد بعضها- ، ليعلم المواطن ان لا يجوز الاستخفاف والتعاطي بنوع من اللامبالاة والتسلية في وقت الازمات ونحن بأمس الحاجه الى التكافل والتضامن والتعاون ، فمثل هذا السلوك احيانا قد يؤدي الى فقدان حياة انسان اخر كان هو الاحق بالمساعدة ، لا بد من التركيز على مثل هكذا سلوك وتعريته … ولا بد ان نعي جميعا بان لا وقت للتسلية …حكايات تتكرر كما ابان الاجتياح ان يتصل احدهم مدعيا وجود حاله مرضيه طارئة وعند وصول المنزل يفاجئك بطلب ايصال (طنجرة مقلوبة للابن الذي يسكن في منطقه اخرى بالمدينة ).. تماما عندما طلب منا رجل حليب لأطفاله كحاجة ماسه ، لتجيبه : متوفر لدينا حليب ألأطفال ودون ان يرى الحليب الذي معنا وأنواعه ، يقول : لا ليس هذا الحليب الذي استعمله ، اريد جرافة لتنظيف الثلوج من امام المدخل مع العلم ان الشارع مفتوح ولكن بقي ثلوج على الاطراف وهذا ما تطرق له الصحفي علاء بدارنه الذي كان وقتها برقتنا .

من جانب اخر ، تجلى التعاون والتكامل على الرغم من قلة الامكانات وحجم المأساة وانعدام التجربة الحقه في مواجهة المنخفضات الجوية وغزارة تساقط الثلوج …إلا ان جهود حقيقة بذلت وفي وقت مبكر ، واجزم وبدون اي شك ان هذه التجربة على مستوى التنسيق والتعاون وتشكيل لجنة الطوارئ العليا كانت مختلفة عن سابقاتها وتجاوزت الشعارات والتخطيط على الورق الى فعل ميداني بتحديد مناطق نفوذ لكافة الطواقم مما جعل حجم الاستفادة من امكاناتها بما في ذلك البشرية بشكل افضل واشمل . الى ذلك انسجام ما بين مكونات لجنة الطوارئ من مؤسسات رسمية وأهليه وقطاع خاص .لقد تم الاستفادة من الموارد المتوفرة حيث تم توزيع البسه واقيه على الطواقم وكشافات ووسائل اتصال ومواد اسعاف ما مكنهم من القيام بمهماتهم وواجباتهم بشكل مرضي .

هذا لا يعني عدم وجود ثغرات ، قد تكون الاجراءات الوقائية ما قبل الحدث غير كافيه ولا تتناسب مع حجم الحدث الذي فاجئ الجميع وان كان متوقعا حسب مصادر الارصاد الجوية ، فابرز الاشكالات ظهرت بشبكة الكهرباء جراء تساقط الاشجار ولضعف في جوانب بالبنية التحتية للشبكة كما للطرقات الذي كان يفترض ان يعالج جزء اساسي منها قبل دخول المنخفض ، على اية حال التجربة غنيه ولا بد من الاستفادة من دروسها ، ورفع الجاهزية اكثر وتوفير المناخ المناسب للعاملين في الميدان ببذل كل ممكن من اجل عدم اعاقتها في مناطق العمليات سيما من خلال عدم السماح لكافة انواع المركبات والأشخاص في تلك المناطق وبقوة القانون وبفرض عقوبات ، لان بات مرئيا عدم التزام اعداد كبيره من المواطنين بالتوجيهات والإرشادات بالمباشر وعبر كافة وسائل الاعلام ، وعلى سبيل المثال ، ما تناقلته وسائل الاعلام عن تعريض سيارة عمومي في وجه سيارة اسعاف كانت متوجه لإسعاف ونقل طفله الى المشفى ما ادى الى تدخل وزير المواصلات ومدير الشرطة واتخاذ الاجراراءت .

مع ذلك ، الوجه الاكثر اشراقا كان للمتطوعين ، هؤلاء الشباب اللذين يجسدون المواطنة الحقه ، وتفخر بهم مؤسساتهم وأبناء شعبهم لما يبذلوا من جهد مخلص ، لا يمكن لأحد ان يتخيل حجم الفرحة التي تغمرهم عندما يحققون اي انجاز متحدين كل الظروف القاهره ، في مثل هذه اللحظات لا يتحدثون عن متاعب او انهاك ولا يعبرون عن عدم رضا لعدم توفر الامكانات الكاملة بقدر ما يحققون من اهداف ببعدها الوطني والقيمي الانساني . ولا ادل صدقا هذه الحاله الانسانية التي تعاطى معها فريق عمل منسجم ومدرك وواعي.

( بعد عدة نداءات استغاثة من امرأة حامل في وضع حرج جدا …تكررت المحاولات على مدار 4 ساعات دونما نتيجة … ففي الساعة الثامنة والنصف اتخذنا قرار نحن في لجان الرعاية الصحية ومدير فرقة الاطفاء مركز 3 والإغاثة بالدخول الى نابلس الجديدة حيث تسكن المرأة الحامل ، ورتبنا الفرقة المكونة من 10 اشخاص ونسقنا مع الاطفائية لتزويدنا بجيب 4*4 وطيب من مشفى رفيديا وفي تمام الساعة العاشرة انطلقنا من مركز الاطفائية 3 في شارع 24 حيث بالوضع الطبيعي يبعد عن نابلس الجديدة 5 دقائق …. وتمكنا بالجيب من الوصول الى مدخل نابلس الجديدة في عمق 200 م وبعدها لم يتمكن الجيب من التحرك حيث علق بالثلوج التي غطت الإطارات مشينا في الظلام ما يزيد عن 750 متر كحد ادنى وكدنا ننزلق عن الجبال والحمد لله وصلنا المنزل وبعد ان قام الطبيب بفحص المريضة قرر بضرورة اخراجها من المنزل وتحويلها للمشفى لان الوضع صعب وخطر ، وبالفعل حملناها على الاكتف بحمالة المرضى وأخرجناها … وهنا نتحدث عن الحاجة لقوة دفع الثلوج بالأرجل و عن غزارة الثلوج في تلك اللحظة مع رياح قوية جدا وعن وزن امرأة في ظروف صعبة … استمرت عملية نقل المريضة من التاسعة وحتى 12.30 ليلا حتى تمكنا من الوصول لسيارة الاسعاف المتواجدة قرب جامع النور في شارع تل – مسافة 1000 م تقريبا حيث السيارة التي علقت بالثلج – استطعنا اخراجها بعد ساعة من توصيل المريضة اي العملية بشكل فعلي استمر حتى الساعة 1.30 بعد منتصف الليل ).

في الاستخلاص ، العمل المشترك وبانسجام وفق خطة تتحدد فيها المسئوليات والصلاحيات والمهام ما بين الشركاء ، وتوضع امكاناتهم ومقدراتهم على انواعها في مصلحة الهدف ، تكون الانجازات بالضرورة افضل ، وفي الازمات عادة ما يتجسد تكامل الادوار بطريقه سلسه مرئية اكثر بفعل الشعور بالمسئولية الوطنية والإنسانية ما بين السلطة الرسمية بمؤسساتها المختلفة والقطاع الخاص والأهلي بما فيه الاعلام كشريك لعب ويلعب دور محوري اساسي ليس فقط في التوعية المجتمعية ونقل المعلومة والخبر وتوظيف امكاناته بل بوحدته في خدمة الحدث كونه بعيدا عن الخلافات السياسيه .ما يستوجب التعاطي مع الاعلام كشريك استراتيجي .

ومن المهم الاشارة الى دور التطوع والمتطوعين ولا بد من العمل على تعميق مفاهيم التطوع وتعزيز دور المؤسسات التطوعية ورعاية المتطوعين وصقل مهاراتهم وبناء قدراتهم والاهتمام بهم وتلبية احتياجاتهم بقدر الاستفادة والاستثمار في خبراتهم وقدراتهم ، ولا بد من العمل على وضع خطة استراتيجيه وظنية للعمل التطوعي وإعادة الاعتبار له .

وأخيرا ، اتخاذ الاجراءات الوقاية والمعالجات الضرورية ما امكن حيثما الثغرات او الضعف تحديدا في البنى التحتية لتلافي او التقليل من حجم الاضرار المتوقعة على اختلافها كما التخفيف عن كاهل المواطن في ظل تلك الظروف ، دون اغفال التشدد في فرض القانون وفق مقتضيات الظرف الطارئ حرصا على السلامة العامة وسلامة المواطن وإتاحة المجال لذوي الاختصاص للقيام بواجبهم دون اعاقه .

ومع كل ما احيط من اجتهادات حول المنخفض الجوي وتداعياته والأضرار التي تسبب فيها والمشكلات التي تكشفت ، لا بد من الاشادة بما تحقق وعلى لجنة الطوارئ العليا ان تقييم وتستخلص العبر وتسعى الى تطوير خطتها وأدائها ومعالجة الثغرات في ضوء ما تحقق ….مستفيدة من التجربة الحاليه والخبرات التي اكتسبتها من المنخفض الجوي في مواجهة منخفضات قادمة او حتى كوارث طبيعيه لا سمح الله .

د.نهاد الاخرس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى