“الصحة النفسية” في مواجهة تكلفة العلاج ونظرة المجتمع بدول عربية

“ربما كان من الأفضل تحويل المبلغ إلى عائلتي”، بهذه الكلمات يشكو بشار، تكلفة جلسات العلاج النفسي، التي منعته من مساعدة ذويه في مدينة جرمانا بريف دمشق.
بشار (28 عاما)، شاب من الجنسية السورية يقيم في لبنان منذ خمس سنوات هربا من الخدمة العسكرية الإلزامية في بلاده، يقول لموقع “الحرة”، أن أصعب ما يواجهه في تجربته مع الاضطراب النفسي هو تكلفة العلاج التي تشكل “مصدر قلق أكثر من المرض نفسه”، على حد تعبيره.
وكشف أنه مضطر إلى دفع 400 ألف ليرة لبنانية (22 دولار أميركي بالسوق السوداء و266 دولار أميركي بحسب سعر الصرف الرسمي)، تكلفة للجلسة الواحدة في الأسبوع، وهو ما يفوق راتبه الشهري، مشيرا إلى أنه “رغم كل شيء حصل معه بسبب سوء الأوضاع المالية في لبنان، إلا أنه محاط بأصدقاء وبيئة متفهمة للاضطرابات النفسية وحالات الهلع والخوف الشديد”.
ويصل الحد الأدنى للأجور في لبنان إلى 675 ألف ليرة، أي ما يعادل 37 دولارا وفق سعر الصرف في السوق السوداء، و450 دولارا وفقا سعر الصرف الرسمي.
وعن التحديات التي تواجه المضطرب نفسيا في لبنان، تقول مديرة التواصل في منظمة إمبرايس، هبة الدندشلي، في حديث لموقع “الحرة”، إنه “في ظل الظروف الراهنة في لبنان، تعتبر تكلفة العلاج واحدة من أبرز الصعوبات التي يعاني منها الشخص المضطرب نفسيا”.
وأوضحت الدندشلي أن “تكلفة جلسات العلاج النفسي تتراوح بين 400 ألف إلى 600 ألف ليرة لبنانية، والبعض منها يكون بالعملة الأجنبية”، مشيرة إلى أن “الاخصائي النفسي يسعى إلى تأمين لقمة عيشه أيضا”.
وأكدت على أن “هناك نوع من التفهم والوعي الاجتماعي حول الصحة النفسية لدى البعض”، مشددة على أنه “لا يزال الحديث عن الاضطرابات النفسية والميول الانتحارية نقطة مخيفة في المجتمع اللبناني”.
وفي السياق نفسه، تحدثت الدندشلي عن “هجرة الكثير من الأطباء النفسيين تاركين خلفهم مرضى يعانون من أجل إيجاد البديل، والشح في الأدوية المهدئة وتلك المضادة للاكتئاب والقلق”، لافتة إلى أن “إمبرايس وغيرها من الجمعيات تحاول تأمين ما يمكن من الأدوية”.
ووفقا لبيانات “إمبرايس”، التي تقدم خدمة الدعم النفسي عبر الهاتف (خط الحياة)، تضاعف عدد الاتصالات التي تلقتها المنظمة عبر خطها الساخن خلال العام الحالي إلى 1100 شهريا، أي العشرات في اليوم الواحد، 66 في المائة منها لحالات اضطراب عاطفي، 31 في المائة تضمنت أفكار انتحارية.
وفي أغسطس 2021، تلقت المنظمة اتصالات كان 64 في المائة منها لبنانيين، 14 في المائة سوريين، والباقي من جنسيات مختلفة.
وعن أكثر الاضطرابات شيوعا، ذكرت الدندشلي “الاكتئاب، القلق المستمر الناتج عن الخوف من المستقبل، اضطراب ما بعد الصدمات وتحديدا بعد انفجار مرفأ بيروت”.
وأشارت إلى أن “الظروف الاجتماعية والاقتصادية وارتفاع معدلات الهجرة في ظل الدخل المنخفض، ساهمت في تدهور الصحة النفسية لدى مختلف الأعمار”.
بعد انهيار اقتصادي بدأت ملامحه قبل عامين ثم فاقمه انفجار مرفأ بيروت المروع في الرابع من أغسطس 2020، وجد عشرات الآلاف أنفسهم عاطلين عن العمل أو باتت رواتبهم لا تساوي سوى القليل بعدما فقدت الليرة اللبنانية نحو 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار.
وعن الحلول الممكنة لمساعدة المضطربين نفسيا، شددت الدندشلي على “ضرورة سن قوانين تحمي الإنسان من المؤثرات والنتائج”، موضحة أن “قوانين العمل في لبنان لا تحمي الشخص من مسببات الاضطرابات (مثل التنمر في الشركات)، ولا تكفل الإجازات المرضية في حال الشعور بأي اضطراب”.
العراق
وفي العراق، البلد الذي يعاني من اضطرابات أمنية وسياسية، يواجه الكثير من العراقيين العديد من الاضطرابات النفسية التي لا يستطيعون الإفصاح عنها خوفا من نظرة المجتمع، بحسب ما قاله رئيس المجلس العلمي لاختصاص الطب النفسي في المجلس العراقي للاختصاصات الطبية، الدكتور نصيف جاسم الحميري، لموقع “الحرة”.
وشدد الحميري على أن “التحديات التي تواجه المضطرب نفسيا في العراق لا تختلف عن تلك الموجودة في دول العالم الثالث”، مبينا أن “نظرة المجتمع للاضطراب النفسي وتوصيفه على أنه جنون هو واحد من أكبر العوائق”.
ووفقا للحالات التي تمر عليه، يؤكد الحميري أن “أهل المضطرب يقصدون العلاج عند المشايخ والمعالجين الشعبيين والدجالين معتقدين أن الاضطراب هو نتيجة الجن، السحر، الحسد وغيرها من الأفكار غير العلمية”.
وأضاف: “يصل إلينا المريض وهو مستنزف ماليا ومعنويا، حيث قد يتعرض لعلاجات غير مألوفة مثل الضرب والتجويع وغيرها، الأمر الذي يزيد من معاناته”.
ورغم وجود مراكز حكومية للدعم النفسي، إلا أنها “غير كافية وليست بالمستوى المطلوب، الأمر الذي يوقع المضطرب نفسيا تحت رحمة العلاج الخاص، حيث تصل تكلفة الجلسة الواحدة إلى 30 دولار أميركي”، على حد قوله.
وعن أكثر الاضطرابات النفسية شيوعا، يذكر الحميري “القلق، الوسواس القهري، الاكتئاب، الاضطرابات الذهنية، إدمان المخدرات، وغيرها”.
وأفاد عن ارتفاع واضح ومستمر في نسبة المضطربين نفسيا في المجتمع، رابطا ذلك في “الوضع السياسي والأمني، البطالة، ارتفاع الأسعار، موجات التهجير والنزوح”، وغيرها”.
ووفقا لتقرير لمنظمة “أطباء بلا حدود”، في أكتوبر 2020، ارتفعت معدلات القلق لدى مرضى المنظمة في العراق من 45 في المائة إلى 68 في المائة، والاكتئاب من 10 في المائة إلى 20 في المائة.
وتشمل الأعراض التي يعاني منها المضطرين، المزاج الحزين، والانفعال والغضب، واضطراب النوم، علما أن 1.65 في المئة من مرضى أطباء بلا حدود لديهم أفكار انتحارية بسبب الشعور بعدم القدرة على إعالة أسرهم.
وحول الضمانات القانونية للمضطرب نفسيا، أشاد الحميري بوجود قانون للصحة النفسية في العراق، معتبرا أن “أهم ما نتج عنه هو توصيف مدمن المخدرات بأنه مريض نفسي يحتاج للعلاج”.
وتابع: “القانون العراقي يكفل إجازة مرضية طويلة تتراوح بين 6 أشهر و3 سنوات، بعدها يقرر فيها مصير التعاقد مع المضطرب نفسيا، فضلا عن راتب رعاية اجتماعية يمنح للمضطرب أو لأحد متولي رعايته”، مضيفا على أنه “يستطيع من يرعى مضطربا نفسيا التقدم بإجازة للقيام بفعله هذا”.
الجزائر
وبالنسبة للجزائر التي عانت من الاستعمار لسنين طويلة، يظهر “القلق كواحد من الاضطرابات الأكثر شيوعا لدى الشعب الجزائري، الذي يعيش بعضه أزمة خوف في اللاوعي”، على حد تعبير مؤسس مبادرة “الجانب النفسي”، الأخصائي بلال مرسلي، لموقع “الحرة”.
وأضاف: “القلق الوسواس القهري، الفصام، وغيرها من الاضطرابات جميعها موجودة بكثرة في المجتمع ولكن دون اعتراف بها”.
واعتبر مرسلي أن “أبرز العوائق التي تواجه المضطربين نفسيا هي نظرة المجتمع حيث ينظر إلى حالته على أنها جنون، وذلك يعود لأزمة وعي كبيرة حتى أن البعض لا يعلم بوجود علاج وعلم نفس”.
وأشار إلى “فقدان الوعي والشجاعة خلال زيارة العيادات النفسية، حتى أن غالبية المستشفيات لا تضع إشارات عن قسم الطب العقلي والنفسي وذلك حرصا على عدم إحراج المضطرب، الأمر الذي يعطي صورة واضحة عن واقع الاضطرابات النفسية”.
ورأى أن “تكلفة جلسات العلاج النفسي شبه رمزية، حيث أنها لا تتعدى الـ 5 دولار أميركي للجلسة الواحدة، ولكن الكثير من الناس قد يتعايشون مع القلق لنحو 15 سنة، ولا يذهبون إلى العيادات”.
وكان رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث، البروفيسور مصطفى خياطي، قد أكد لموقع “أصوات مغاربية”، سبتمبر الماضي، أن “جزائريا واحدا من بين 5 أشخاص يحتاج إلى تكفل من طرف أخصائي في الصحة النفسية والعقلية”.
وبالنسبة لمرسلي، من الضروري “القيام بدراسات ميدانية وإحصائيات وذلك بعد الزيادة من حملات الوعي والتثقيف حول أهمية الصحة النفسية بدلا من الاكتفاء بأرقام الخطوط الساخنة في أزمة كوفيد-19 مثلا، مشددا على ضرورة وجود قوانين تكفل حقوق المضطرب”.
وأكد أن “القسم الأكبر من المضطربين يلجؤون إلى تقارير طبية تفيد الصداع أو قرحة المعدة، احدى أبرز الأعراض الجسدية للاضطرابات النفسية، ليبرروا غيابهم عن العمل”، داعيا إلى العمل على المزيد من التشريعات الراعية لهذا الواقع المرير، كما يصفه.
السعودية
أما بالنسبة للسعودية، فلا تزال “وصمة العار هي التحدي والسبب الأول في إحجام أغلب المرضى”، بحسب ما قاله الأستاذ الجامعي والاستشاري النفسي البروفيسور علي صحفان، لموقع “الحرة”.
وحول تكلفة العلاج، يقول صحفان إن “جلسة الكشف الطبي في العيادات الخاصة حوالى 200 ريال سعودي (53 دولار أميركي)، والجلسة الأسبوعية تصل إلى 500 ريال سعودي (133 دولار أميركي)، وهي لا تشكل تحديا للمضطرب في السعودي باعتبار أن هناك كبير من المستشفيات والعيادات الحكومية التي تقدم العلاج بالمجان”.
وعن أكثر الاضطرابات النفسية المنتشرة بالمجتمع السعودي، يقول صحفان: “الاكتئاب، الاضطراب الوجداني، نوبات الهلع”.
ووفقا نتائج المسح الوطني للصحة النفسية وضغوط الحياة لعام 2019، أن 34 في المائة من السعوديين والسعوديات تعرضوا للإصابة بأحد الاضطرابات النفسية في مرحلة ما من حياتهم، فيما تعرض 40 في المائة من فئة الشباب السعودي للإصابة باضطرابات نفسية في مرحلة ما من حياتهم.
وبينت الدراسة التي استغرقت نحو ثلاث سنوات، وشملت 4004 فردا، أن أكثر الحالات النفسية انتشارا في المملكة اضطراب القلق من الانفصال بنسبة 11.9 في المائة ، ويأتي ثانيا اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط بنسبة 7.9 في المائة، ثم في المرتبة الثالثة اضطراب اكتئابي كبیر بنسبة 6 في المائة.
ولفت إلى ارتفاع ملحوظ في عدد الاضطرابات النفسية بسبب تغير نمط الحياة بسبب جائحة فيروس كورونا، لاسيما نسبة اضطراب توهم المرض، الذي يجعل الشخص يتوهم بأن أي ارتفاع في درجة الحرارة أو رشح أو عطس يعني الإصابة بفيروس كورونا.
ووفقا لبيانات المركز الوطني لتعزيز الصحة النفسية، وصلت نسبة خطورة الإصابة بالاكتئاب بشكل عام في المنتصف الثاني من عام 2021 إلى 18.2 في المائة.
كما أثبتت الدراسات التي عمل عليها المركز تأثير القلق من الإصابة بفيروس كورونا-19 على الصحة النفسية، حيث وصلت نسبة خطورة الإصابة بالاكتئاب إلى 16.4 في المائة لمن لم يتلق اللقاح، بينما كانت 8.5 في المائة لمن تلقى اللقاح.
كما وصلت نسبة خطورة الإصابة بالقلق إلى 15.9 في المائة لمن لم يتلقى اللقاح، وكانت 12 في المائة لمن تلقى اللقاح.
وأشاد صحفان بوجود الكثير من المستشفيات والعيادات النفسية الحكومية، بالإضافة إلى خدمات الاستشارات عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي بما يعزز اطمئنان المريض بأن هويته لن تكشف.
وتابع: “هناك أنظمة قانونية في المملكة تحمي حقوق المريض النفسي وتحافظ على سرية المعلومات التي يدلي بها للطبيب أو المعالج النفسي، بالإضافة إلى أنه يعامل مثل غيره من المرضى العضويين في حال الإجازات المرضية”.
ويحتفل العالم في 10 أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للصحة النفسية، الذي قررت فيه منظمة الصحة العالمية لهذا العام إطلاق شعار الرعاية الصحية النفسية للجميع، وذلك انطلاقا من تأثير أزمة الوباء العالمي على جميع سكان الأرض.
وقالت المنظمة إنه “كان لجائحة كوفيد-19 أثر فادح على الصحة النفسية للناس، مشيرة إلى تضرر بعض الفئات من ذلك بشكل خاص، بما يشمل العاملين في الرعاية الصحية وفي الخطوط الأمامية، والطلاب والأشخاص الذين يعيشون بمفردهم وأولئك المصابين بحالات صحية نفسية أصلا”.
وأشارت إلى تعطل خدمات الصحة النفسية والعصبية وخدمات اضطرابات تعاطي مواد الإدمان أثناء الجائحة.